التحول الرقمي العراقي: من زينة التطبيقات إلى روح الدولة الرقمية
- KDTS

- 3 نوفمبر
- 3 دقيقة قراءة

بارومتر العراق/ كتب ضياء ثابت مسؤول قطاع الاتصالات والمعلومات في يونسكو العراق
في مرحلةٍ تتقدّم فيها الأمم بسرعة الضوء نحو واقعٍ رقميّ شامل، يقف العراق على مفترقٍ طرق افتراضي-واقعي، أحدهما ما زال غارقًا في الورق والطوابع، والآخر يبني مستقبله عبر الخوارزميات والتطبيقات الذكية الشفافة.
العراق اليوم لا يحتاج إلى المزيد من "المنصات"، بل إلى روح رقمية تعيد تعريف معنى الحكم نفسه.
درس من روما: حين يصبح القانون روحًا رقمية
في قلب أوروبا، بين آثار الإمبراطورية وابتكارات القرن الحادي والعشرين، اختارت إيطاليا منذ عام 2021 طريقًا رقميًا مختلفًا. لم تُطلق شعاراتٍ ولا دعايات مبرمجة مسبقًا، بل بنت دولة رقمية لها روح وقانون ومؤسسات.
أدركت روما أن التحول الرقمي ليس "مشروعًا تكنولوجيًا"، بل مشروع دولة وأن الإصلاح لا يبدأ من خوادم البيانات، بل من الإرادة السياسية.
فأنشأت الحكومة الإيطالية تحت سلطة رئيس الوزراء جهازين متكاملين:
وكالة إيطاليا الرقمية (AgID)، لتضع الأسس والمعايير التقنية،
ومديرية التحول الرقمي (DTD)، لتقود التنسيق وتضمن التنفيذ.
ليست هذه البُنى مجرّد بيروقراطية جديدة؛ إنها العقل المركزي الذي يُفكر باسم الدولة كلها. فهي تُوحِّد الأنظمة، تُلزم الإدارات، وتحوّل التجارب المنفصلة وزاريا إلى نظام منسجم ومتناسق.
ثم خطت إيطاليا خطوةً أعظم عندما شرعت "دستورها الرقمي" قانون الإدارة الرقمية (CAD)، الذي أعلن أن "للمواطن حقًّا دستوريًا في المعاملة الرقمية"، وهنا تم التحول الرقمي من سياسةٍ إلى حق إنساني، ومن رحم هذا الدستور وُلدت ثلاث ركائز أساسية:
SPID: الهوية الرقمية الوطنية
PagoPA: منظومة المدفوعات الإلكترونية الحكومية
IO App: بوابة الخدمات العامة التي جعلت الدولة في متناول اليد.
ليست هذه تطبيقات فاخرة، بل جسور ثقة أعادت وصل المواطن بالدولة ببساطة، كفاءة، وكرامة.
العراق: حين تتحوّل المشاريع إلى ديكور رقمي
أما في العراق، فالمشهد مختلف، حيث أن نمط "التحول الرقمي" لا يعدو كونه ديكورا يُزيّن الخطابات الوزارية، ولافتاتٍ تلمع في مؤتمراتٍ مموّلة، لا أثر لها في حياة الناس.
منصات تُفتتح بالكاميرات وتُغلق بالصمت. مواقع إلكترونية لا تعمل إلا يوم الافتتاح. "مدراء رقميون" بلا سلطة ولا رؤية، ينتظرون تعليماتٍ من أنظمةٍ لا تعرف التحوّل سوى بالاسم. في العراق اليوم، لا نملك هوية رقمية وطنية، ولا قانون إدارة رقمية، ولا بوابة دفع موحّدة، ولا معايير أمن سيبرانيّ وطنية.
كل وزارة جزيرة، وكل مشروعٍ دولةٌ مصغّرة. والنتيجة رقمنة بلا دولة، ودولة بلا روح رقمية.
نحو الوكالة الوطنية للتحول الرقمي العراقي (NDTAI)
إن كنا جادين في بناء عراقٍ عصريّ، فعلينا أن نبدأ من الأعلى من مكتب رئيس الوزراء عبر انشاء كيانٍ واحدٍ جامع (الوكالة الوطنية للتحول الرقمي العراقي) (NDTAI).
يُمنح هذا الجهاز صلاحياتٍ تنفيذية وتشريعية، تُعيد تنظيم العلاقة بين المواطن والدولة في العالم الرقمي. هذه الوكالة يمكن أن تكون مركز قيادة للتحول، تُنتج:
قانون الإدارة الرقمية العراقي (Digital Administration Code of Iraq)،
الهوية الوطنية الرقمية (ID-Iraq)،
نظام الدفع الإلكتروني الوطني،
التطبيق الموحد للخدمات الحكومية.
نظام رقابة رقمية على أعمال المؤسسات الحكومية كافة
يجب أن تكون الوكالة بمثابة حكومة رقمية داخل الحكومة، تُنسّق، تُوحّد، وتُحاسب.
شراكة مع إيطاليا: من التجربة إلى التوأمة
إيطاليا اليوم ليست نموذجًا جاهزًا فحسب، بل شريكًا محتملاً للعراق. يمكن لبغداد أن تتعاون مع روما لإنشاء برنامج توأمة رقمية بين AgID وNDTAI، يوفّر الدعم التقني، والخبرة القانونية، والتدريب المؤسسي.
بهذا المساق نترجم التحول الرقمي في العراق من فكرةٍ محلية ودعاية مملة إلى مشروعٍ دوليٍّ منضبط ضمن أفق أوروبي–متوسطيّ أوسع.
القرار الصامت: حين تُبنى الدولة من الداخل
ليس المطلوب إعلانًا جديدًا أو مؤتمرات منمقة، المطلوب قرارٌ صامت، حاسم، من قمة الدولة تعززه ارادة سياسية للتحول الواقعي نحو الفضاء الرقمي، قرار يضع التحول الرقمي في صميم مشروع الحكم، لا في هامشه.
فالدولة الرقمية لا تُبنى بالتطبيقات، بل بالعقل الذي يصنعها.
ولا تُقاس بالواجهة الرسومية للمواقع، بل بالثقة التي تمنحها للمواطن.
من المكياج الرقمي إلى الجوهر
لقد تعب العراقيون من الوعود الملوّنة، آن للعراق أن ينتقل من زينة التحول الرقمي إلى جوهر الدولة الرقمية — دولةٍ تعرف مواطنيها، وتخدمهم بسرعة، وتفتح لهم أبوابها إلكترونيًا لا ورقيًا. دولة لا تُخفي فشلها وراء "إنفوغرافيك"، بل تُعلن نجاحها من خلال سهولة الخدمة وشفافية الأداء وكرامة المواطن.
العراق لا يحتاج إلى "تطبيق جديد"… بل إلى عقلٍ جديد.
عقلٍ رقميّ يبني الثقة، ويُعيد للدولة هيبتها، وللمواطن احترامه.
انتهى.





