الحكومة تتشكل وفق معادلة "اليشوف الموت يرضى بالسخونة"!
- KDTS

- 16 نوفمبر
- 2 دقيقة قراءة

بارومتر العراق/ كتب ضياء ثابت
منذ أن جرّب العراقيون صناديق الاقتراع أول مرة عام 2005، تبنى النظام السياسي (نظرية الوجبة المتقطعة) التي تقدم عبر ثلاث مراحل وفي الأواني نفسها، وكل الذي يتغيّر هو كمية البهارات ومزاجية الطباخ. واللاعبون الإقليميون والدوليون واقفون على باب المطبخ، واحد يقترح زيادة الملح، والثاني يصرّ على تخفيف النار، والثالث ينتظر اللحظة المناسبة ليغيّر الطبخة كلها إن سنحت له الفرصة.
هذا المشهد يذكّرنا بحيلة الأمهات القدامى حين يطبخن مرقة القرع او الكوسة كما يسميها اهل الشام، ويبدأن عملية مساومة نفسية مع الزوج والأولاد. يقترحن لهم أولاً أشد الوجبات كرهاً، ثم أقلها نُفوراً، ثم تلك التي تُؤكل اضطراراً… إلى أن تصبح مرقة القرع فجأة خياراً محبوباً، بل “منتخَباً” بالإجماع! وكما يقول المثل الشعبي: “الي يشوف الموت يرضى بالسخونة”.
وها نحن اليوم، بعد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة، نقف أمام المرحلة ذاتها من المسرحية ذاتها، في المطبخ ذاته، مع اختلاف بسيط، تغير فيه الطباخين لكن المطبخ لم يتغير… والوجبة النهائية حُسمت قبل أن يغسل الناخب رجليه من تراب مسيره لمركز الاقتراع.
ومنذ ليلة امس بدء الفائزون تقديم المقبلات الباردة، خمسة أو ستة أسماء من الوزن الثقيل، بينهم رؤساء وزراء سابقون، وآخرون يُرمى اسمهم في الهواء لا لمعرفة شعبيتهم بل لمعرفة من سيتوتر ومن سيحرك جيوشه الإلكترونية، ومن سيبدأ المفاوضات مبكراً. هذه المرحلة أشبه بما يسميه علماء السياسة Stage Setting أو تهيئة المسرح، لا أحد جاد بتقديمهم كمرشحين فعليين للمنصب، لكن الجميع معني بردود الفعل حولهم.
ثم يدخل السيناريو مرحلة المقبلات الساخنة، حيث تُسحب الأواني القديمة من الطاولة، وتُدفع بدلاً عنها اواني فيها رؤوس جديدة؛ بعضها يثير الجدل، وبعضها لا لون ولا طعم ولا رائحة له!… مجرد أسماء تُقذف لاختبار احتمالات التوافق، أو كما يسمّيها منظّرو السياسة Trial Balloons—بالونات اختبار، تتطاير لا لشيء إلا لمعرفة من سيحاول تفجيرها أولاً.
أما الطبق الرئيسي، ذلك الذي يتحوّل فجأة إلى “خيار الحكمة” و”الحل الوطني” و”القرار التاريخي”، فهو في الحقيقة محسووووم من قبل أن تُفتح صناديق الاقتراع ومن قبل أن تُعلن النتائج. والغاية من كل هذا الماراثون؟ إنهاك الجمهور الذي ينتظر، وإحراج الكتل الفائزة، ودفع الجميع أخيراً للقبول بـ”الخيار المَعقول”… والذي يبدو معقولاً فقط لأنه ليس الأسوأ مما سبقه.
إنها نسخة سياسية دقيقة من نظرية Manufactured Consent لنعوم تشومسكي، ولكن بنكهة عراقية خالصة، تتمثل بإقناع الناس بما هو مُقرّر مسبقاً، عبر إرهاقهم بسلسلة خيارات مصممة لتجعل الخيار الأخير يبدو كأنه نجاة.
ولأن الطبّاخين يعرفون أن الناس يميلون إلى الهروب من الكارثة نحو المجهول، فإن النظام لا يقدّم رئيس الحكومة… بل يقدّم “أخف الضررين”. وهكذا تتحوّل السياسة إلى قدر ضغط ضخم مهما وضعتَ فيه من مواد، فإن الرائحة الأخيرة واحدة… والوجبة نفسها يُعاد تقديمها، مع اختلاف بسيط في طريقة التتبيل.
في النهاية، يتقبل العراقي –الوجبة ويراقب لأربع سنوات مصيره– مبتسما، يراقب، ويقول بحكمة مُرة “مو مهم شنو ينحط على السفرة… المهم منو كاعد بالراس”.
انتهى.





