top of page

كهف شانيدر: الذاكرة العميقة للإنسان الأول في جبال كردستان

  • صورة الكاتب: KDTS
    KDTS
  • قبل 4 أيام
  • 2 دقيقة قراءة

في نقطةٍ مخفية من جبال برادوست النائمة على حدود أربيل، يرتفع كهف شانيدر كأنه ندبةٌ حجرية على وجه الزمن، أو نافذة مفتوحة على طبقات من الوجود الإنساني تمتد إلى أكثر من ستين ألف عام. ليس مجرد كهف، بل وثيقة حيّة تعيد تشكيل سردية الإنسان الأول، وتكشف أن جذور الحضارة لم تولد فجأة، بل تسرّبت من بين أصابع الصخر والرماد والرموز الأولى للموت والحياة.

اكتشاف أعاد رسم حدود الإنسان

بين عامي 1951 و1960، قادت بعثة العالم الأميركي رالف سوليكي واحدة من أهم الحفريات الأنثروبولوجية في الشرق الأوسط. وما كشفت عنه تلك الحملات لم يكن مجرد هياكل عظمية، بل ثورة معرفية أبطلت النظرة الكلاسيكية لإنسان النياندرتال باعتباره كائناً خشناً، همجياً، غير قادر على الوعي أو العاطفة.

في شانيدر، وُجدت رفات تسعة أفراد من النياندرتال، لكن المفاجأة الكبرى كانت في التفاصيل:

هيكل ضُمّن في حفرة مع آثار حبوب لقاح، وهي علامة على طقس جنائزي يشير إلى إدراكٍ مبكر لفكرة الوداع والذاكرة.


إنسان مُعاق عاش لسنوات طويلة رغم كسور خطيرة في جسده، ما يدل على شبكة رعاية اجتماعية داخل المجموعة.


أدوات حجرية ذات تصميم متقن، واستخدام واعٍ للنار، وتكيّف مع البيئة الجبلية القاسية.

لقد أجبر شانيدر العلماء على إعادة كتابة تاريخ النياندرتال: لم يعد كائناً بدائياً، بل إنساناً بملامح روحية واجتماعية واضحة.

أرشيف جيولوجي يروي ما سكتت عنه العصور

كهف شانيدر ليس موقعاً أثرياً وحسب؛ إنه أرشيف طبيعي تحفظ طبقاته المتراكمة تقلبات المناخ، وانقراضات الحيوانات، وتحولات النباتات منذ آلاف السنين.


تظهر طبقاته كأنها فصول مكتوبة بصبر فوق ركام الحجر:

عصور جليدية تتقدم وتتراجع.


مستويات رماد تدل على استخدام النار.


عظام حيوانات كانت تجوب جبال كردستان قبل اندثارها.


بصمات تطور الأدوات الحجرية جيلاً بعد جيل.

إنه المكان الذي تتجاور فيه هوية الإنسان مع تاريخ الأرض نفسها، وكلاهما مكتوبٌ على الحجارة.

ree

شانيدر… كنز علمي مع وقف التنفيذ

ورغم ثقل قيمته العلمية، يعاني الكهف من إهمال واضح لا يليق بموقع قادر على أن يكون أحد أهم مراكز الدراسات الأنثروبولوجية في الشرق الأوسط. فالموقع يفتقر إلى بنية تحتية مناسبة للباحثين والزوار، ومسارات وصول آمنة ومتطورة، ولوحات تعريفية ومركز توثيق علمي، وفرق متخصصة بالإدارة والترميم، ورؤية وطنية لتحويله إلى وجهة ثقافية وبحثية.

هذا الإهمال يضع أحد أهم مواقع النياندرتال في العالم في دائرة الخطر الصامت، ويجعل العراق يخسر فرصة يمكن أن تعيده إلى واجهة البحث العلمي العالمي.

إمكانات ضائعة… ومسؤولية ثقافية

يمكن لشانيدر أن يكون أكثر من مجرد أثر مهمل. يمكنه أن يتحول إلى متحف ميداني يعرض فيه تاريخ الإنسان الأول بأساليب حديثة، وإلى مركز بحثي دولي يربط جامعات العراق بشبكات البحث العالمية، وإلى مزار ثقافي وسياحي يحكي قصة الإنسان قبل المدن والملوك والأساطير. إنه قادر على أن يكون العلامة التي تذكّر بأن العراق ليس مهد الحضارات التاريخية فقط، بل أيضاً مهد الوجود الإنساني المبكر.

لكن كل ذلك يحتاج إلى قرار؛ قرار يدرك أن حماية شانيدر ليست مجرد فعل أثري، بل حماية لذاكرة الإنسان نفسه.

خاتمة: حين يتكلم الصخر عن الإنسان

يقف كهف شانيدر اليوم كأنه سؤال معلّق في الهواء: هل يمكن لحضارة تملك هذا العمق أن تدير ظهرها لأقدم صفحاتها؟


إن شانيدر يذكّرنا بأن الإنسان لم يبدأ من أسوار المدن، بل من تجاويف الجبال، ومن النار الأولى التي أشعلها ليبدّد العتمة. وفي هذا الكهف بالذات، ما زالت تلك النار الصغيرة تتوهّج داخل طبقات التراب، تنتظر أن نعيد لها ما تستحقه من ضوء.

©2025 by IRAQI-BAROMETER. 

bottom of page