العراق يقترب من أسوء ازمة مياه في تاريخه
- KDTS

- 4 أغسطس
- 3 دقيقة قراءة

يتجه العراق نحو أزمة مائية غير مسبوقة تهدد بنسف قواعد الأمن الغذائي والاجتماعي وحتى البقاء. من بين صرخات المدن الجنوبية الجافة، وصرير الريح اللاهب على الأراضي الزراعية المتشققة، ياتي صوت وزارة الموارد المائية ليحذر من أخطر موجة جفاف قد تواجهها البلاد منذ عقود، تراجع المخزون المائي إلى أقل من 8 مليارات متر مكعب، وهو أدنى رقم تسجله الذاكرة المائية العراقية الحديثة.
يقول وزير الموارد المائية، عون ذياب، إن عام 2025 قد يكون “الأصعب مائيًا” في تاريخ العراق، مشيرًا إلى أن الانخفاض المتواصل في واردات المياه من تركيا، والذي تجاوزت نسبته 60% منذ عام 2019، يهدد بإفراغ الأنهر من مضمونها. ويضيف الوزير أن توقف الزراعة البعلية والمروية قد يتحول من احتمال إلى واقع فعلي خلال شهر أيلول المقبل، إذا لم تتحسن معدلات الإطلاقات القادمة من الشمال.
لم تكن المياه يومًا مجرد مسألة بيئية في العراق. إنها مسألة سياسية، اقتصادية، وأمنية بامتياز. ومع بقاء معظم مفاوضات تقاسم المياه بين العراق وتركيا في حالة جمود، يجد العراق نفسه في مواجهة معادلة معقدة: كيف يمكن لحوالي 43 مليون نسمة أن يستمروا في العيش ضمن منظومة نهرية تعاني من التجفيف التدريجي والانهيار الإيكولوجي؟
بحلول نهاية عام 2025، تشير التقديرات إلى أن المخزون الاستراتيجي للمياه قد يتراجع إلى ما دون 6 مليارات متر مكعب إذا استمرت نسب التبخر العالية، التي تجاوزت هذا الصيف وحده نسبة 25% في مناطق الجنوب، مع عدم وجود إطلاقات كافية من سدود تركيا وسوريا. في ظل هذه الأرقام، سيكون العراق على أعتاب مرحلة التصنيف الدولي “ندرة مائية مطلقة”، حيث ينخفض نصيب الفرد إلى أقل من 400 متر مكعب سنويًا، وهو عتبة الخطر التي يحددها البنك الدولي.
أخطر ما تحمله هذه الأزمة هو تمزق نسيج الزراعة للعراق، البلد الذي طالما تباهى بأنه “أرض السواد”. فمن المتوقع أن يتم إلغاء الزراعة البعلية بشكل كامل خلال الموسم المقبل، بينما ستتقلص المساحات المروية بنسبة تصل إلى 80%. وهذا يعني – بلغة الأرقام – فقدان إنتاج ما يزيد عن 3 ملايين طن من الحنطة والشعير، وارتفاع فاتورة الاستيراد الغذائي إلى ما يزيد عن 4 مليارات دولار سنويًا.
الانعكاسات لن تقف عند حدود المزرعة، بل ستتدحرج إلى كل القطاعات في المدن، ستتفاقم أزمة مياه الشرب، لا سيما في محافظات مثل ذي قار وميسان والبصرة، حيث تضطر آلاف العائلات بالفعل إلى شراء المياه من الصهاريج، بأسعار تبلغ أحيانًا عشرة أضعاف الكلفة الرسمية. وفي القطاع الصناعي، ستتعطل عشرات المصانع الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على المياه كعنصر أساسي، بدءًا من معامل المشروبات والمياه المعبأة، إلى الصناعات الغذائية والنسيجية. بعض التقديرات الحكومية تشير إلى أن ما لا يقل عن 45% من المصانع المتوسطة في الجنوب ستقلص طاقتها التشغيلية في حال استمرت الأزمة دون حلول هيكلية.
أما على الصعيد الاجتماعي، فالأزمة قد تكون فتيلًا لموجات جديدة من التوترات. التقديرات الأولية تشير إلى أن أكثر من 120 ألف عائلة ريفية قد تضطر إلى النزوح نحو المدن خلال عام 2025 بسبب انعدام مصادر الدخل الزراعي. هذا النزوح، المترافق مع ارتفاع أسعار الغذاء والمياه، سيزيد من الضغط على البنية التحتية الهشة في المدن، ويرفع معدلات البطالة ويعيد إنتاج سيناريوهات احتجاجية مماثلة لما شهدته البصرة في صيف 2018، وما تشهده مدن ميسان حاليا، حيث تحولت ازمة المياه إلى وقود لغضب شعبي خرج عن السيطرة.
وإذا استمر هذا النسق المتسارع، فإن العراق قد يصبح من أكثر الدول اعتمادًا على الاستيراد الغذائي في المنطقة، بنسبة قد تصل إلى 70% من حاجته الأساسية من الحبوب والخضروات بحلول نهاية 2025، ما يعني ربط أمنه الغذائي بالسوق الدولية المضطربة أصلًا.
وسط هذه الصورة القاتمة، تلوح بعض محاولات الإنقاذ كتحلية مياه الخليج، تطوير مشاريع الري المغلق، إدخال التكنولوجيا إلى الزراعة عبر الزراعة العمودية والزراعة بالتنقيط، والاعتماد على المياه الجوفية. كل تلك الاستراتيجيات وُضعت على الطاولة، لكنها لم تنتقل بعد إلى حيز التنفيذ الكامل. والعائق ليس تقنيًا فقط، بل سياسي ومالي وإداري.
في ظل كل ذلك، يبقى السؤال المقلق حاضرا (هل يستعد العراق لمواجهة العطش)، أم أنه لا يزال يتعامل مع أزمة المياه كملف موسمي ينتهي بانتهاء الصيف؟ المؤشرات لا توحي بالكثير من الأمل، لكن الزمن لا ينتظر، والمياه – كما التاريخ – لا ترحم من يستهين بها.
انتهى.





