top of page

بين عالمين رقميين: يصبح الوعي الافتراضي حداً فاصلًا بين من يصنع المستقبل ومن يستهلكه!

  • صورة الكاتب: KDTS
    KDTS
  • 25 أكتوبر
  • 3 دقيقة قراءة
ree

بارومتر العراق/ كتب ضياء ثابت خبير الاتصالات والمعلومات في اليونسكو

لم يعد الفضاء الرقمي مجرد مكانٍ للبوح أو التسلية، بل أصبح ساحةً كبرى لإعادة تشكيل وعي البشر، وهندسة سلوكهم الجمعي، وإعادة توزيع موازين القوة في العالم. في هذا المشهد المترامي الأطراف، تتكشف أمامنا ثنائية عجيبة بين نوعين من المنصات:

منصات الوعي التقني المتقدم مثل Reddit، Discord، GitHub، ومنصات الضجيج الجماهيري مثل Facebook، Instagram، TikTok.

الفرق بين النوعين ليس في الشكل ولا في الوظيفة التقنية فحسب، بل في طبيعة الوعي الذي يؤطّر عقول مستخدميهما، وفي مستوى الإدراك الذي يحرّكهم، وفي العمق الذي يصنعون منه واقعهم الرقمي.


المنصات الاحترافية: حيث يتكوّن الذكاء الجمعي ويُصاغ الغد

في Reddit لا يُقاس الإنسان بعدد متابعيه، بل بعمق مساهمته، بقدرته على إنتاج فكرة، أو تفكيك مفهوم، أو هندسة رؤية ما.

في Discord لا تُرفع الأصوات بالصراخ، بل تتشابك في قنواتٍ من التنظيم المذهل، حيث تجتمع فرق من مبرمجين ومصممين وعلماء بيانات ومهندسي مجتمعات رقمية، لتبني مشاريع تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية.

أما GitHub، فهو المعبد الأعظم للبرمجة الحرة، المكان الذي تُكتب فيه شيفرات المستقبل، وتُدار فيه حروب ناعمة من خلال البرمجيات مفتوحة المصدر، هناك حيث يصبح المبرمج والمحترف والمبتدئ صانع أيديولوجيا جديدة، لا مجرد موظف خلف شاشة.

هؤلاء المستخدمون ليسوا جمهورًا؛ بل طبقة رقمية مثقفة، تمارس الوعي السيبراني بمنهج علمي دقيق، وتدير تفاعلاتها على أساس القيمة والإنتاج والمعرفة، لا على أساس الإعجابات أو المشاهدات أو الهاشتاغات.

إنهم جيل من المهندسين المجتمعيين الذين يدركون أن الذكاء الاصطناعي ليس أداة فحسب، بل كيان يتغذّى من الوعي الجمعي البشري ويعيد هندسة ذاته.


المنصات الجماهيرية: مسارح للضوضاء ومقابر للمحتوى

في المقابل، هناك منصات مثل Facebook وInstagram وTikTok — فضاءات تتوه فيها العقول في بحرٍ من الصور المتكررة والفيديوهات القصيرة والمشاعر اللحظية وخربشات من هنا وهناك.

عالم يبدو واسعًا في الأرقام، ضيقًا في المضمون، مزدحمًا بالأجساد وقاحلًا من الأفكار.

مستخدمو هذه المنصات لا يُنتجون معرفة، بل يُعيدون تدوير الانفعال.

إنهم جمهورٌ تخلّى عن أدوات التفكير العميق، واكتفى بالاستعراض السطحي. في هذا العالم، لا تُقاس القيمة بالمعرفة بل بالتفاعل، ولا يُكافأ الفكر بل الإيقاع، ولا يُنشر الوعي بل الوهم. خوارزميات المنصات تصنع من السذاجة زعامة، ومن الغرور هوية، ومن الثرثرة محتوى، ومن التفاهة رأيًا عامًا.

إنها مصانع عملاقة لإنتاج ما يمكن تسميته بـ الوعي المعلّب؛ وعيٍ مصمّم للاستهلاك، لا للإبداع.


التناقض الجوهري: بين من يبرمج العالم ومن يُبرمج به

الفارق بين المجموعتين أشبه بالفارق بين من يصنع الأدوات ومن تُصنع به الأدوات. ففي الوقت الذي يناقش فيه مستخدمو Reddit مستقبل “الذكاء العام الاصطناعي” (AGI) وحدوده الأخلاقية، تجد على TikTok تحديات التفاهة تتكاثر بسرعة الضوء. ويختبر رواد العالم الرقمي الاول، رواد هذا الفضاء العبثي الثاني فيصنعون لهم ادارات وفلاتر وقوالب ويكسبون الثمن. وفي حين تبتكر مجتمعات GitHub حلولًا رقمية لمشكلات العالم، يغرق جمهور Facebook في جدالات عبثية حول الوهم والهوية والماضي.

هكذا نعيش اليوم في فجوة رقمية معرفية، لا بين من يملك الإنترنت ومن لا يملكه، بل بين من يفهم الإنترنت ومن يُستخدم عبره.


قوة التأثير: حين تصنع المنصة نظامًا سياسيًا

النوع الأول من المنصات لا يكتفي بالتفاعل، بل يخلق أنظمة كاملة. خرجت منها مشاريع كبرى غيّرت العالم الرقمي والاقتصادي والسياسي، من “بيتكوين” إلى “لينكس” إلى “ويكيبيديا”. مجتمعات صغيرة مترابطة رقميًا لكنها قادرة على تحريك أسواقٍ، وإسقاط أنظمةٍ فكرية، وتأسيس مدارسٍ في البرمجة والسياسة والإعلام.

أما النوع الثاني، فهو يخلق تأثيرًا زائفًا.

ضجيج لحظي بلا بنية فكرية، يرفع أشخاصًا إلى مستوى النجوم ثم يطويهم في النسيان بعد يوم أو يومين. إنه سيرك رقمي يُضحك ويُشغل، لكنه لا يُغيّر شيئًا في البنية العقلية أو الحضارية للمجتمع.


ما بعد الترفيه: معركة الوعي

في النهاية، ليست القضية مجرد تفضيل بين منصات، بل بين نمطين من الوعي.

الأول — وعي إنتاجي، إبداعي، هندسي — يرى في الإنترنت حقلًا للتجريب والخلق وإعادة بناء العالم.

الثاني — وعي استهلاكي، انفعالي، ترفيهي — يرى في الإنترنت مجرد مرآةٍ لنرجسيته وصندوقًا للضجيج الجماعي.

ولأن الأمم لا تُقاس بعدد سكانها بل بنوعية وعيهم، فإن المجتمعات التي ما زالت تعيش في أسرِ “فيسبوك” و”تيك توك” تعيش تأخرها مرتين: مرة في الواقع، ومرة في الفضاء الرقمي.

إنها شعوب لم تدرك بعد أن الذكاء الاصطناعي لا يخدم المستهلكين، بل يخدم المبدعين الذين يصممونه.


العالم القادم لا يتسع إلا للواعين

في عالمٍ تحكمه الخوارزميات، يصبح الجهل الرقمي شكلًا من أشكال العبودية الجديدة. لن تُستعبد الأجساد كما في الماضي، بل العقول عبر الإدمان الخوارزمي والرضا بالسطحية. ومن لا ينتقل من “التفاعل” إلى “الإبداع” سيظل مجرّد رقمٍ في سجلّ بيانات، يُستخدم وقوده في تدريب الذكاء الاصطناعي الذي يصنعه الآخرون.

العالم الجديد لا يتسع إلا للواعين.

إما أن تكون منصات مثل Reddit وGitHub وDiscord تصنع المستقبل، او تساير روادها من حيث القدرات أو أن تبقى في TikTok وFacebook وInstagram، تدمن نقرات الترفيه والتجول في محتوى ترفيهي تافه كان او هادف!

انتهى.

©2025 by IRAQI-BAROMETER. 

bottom of page