كيف عرف العقل الشرقي اليقين، وربط الإيمان بالرياضيات، واستقرأ عصر الذكاء الاصطناعي: الأسس المنطقية للاستقراء
- KDTS

- 2 ديسمبر
- 3 دقيقة قراءة
بارومتر العراق/ كتب ضياء ثابت خبير اليونسكو
في زمنٍ يتداعى فيه اليقين تحت ضربات الشك، ويغرق الإنسان في فيضٍ من البيانات التي لا تفضي إلى معنى، ينهض من أعماق الشرق الأوسط مؤلفاً فريدا من نوعه “الأسس المنطقية للاستقراء”…
ذلك السفر الفلسفي الذي كتبه عقلٌ عاشقٌ للحق، فحوّل الاستقراء من مجرّد أداة معرفية إلى بوصلة وجودية تُعيد رسم علاقة العقل بالعالم.
هذه المخطوطة ليست وثيقةً جامدة، بل هي جهاز تنفّس فكري يصل بين الحضارات، ويمنح البشرية فرصةً كي تعيد النظر في مفاهيمها الأكثر رسوخاً( اليقين، الإيمان، العقل، والاحتمال).
هي لحظةٌ فريدة حين التقت رياضيات راسل بعمق كانط وجرأة المعتزلة وروحانيات علم الكلام، في عملٍ فكري واحد خرج من النجف، ليصبح – بغير مبالغة – أول بيان فلسفي لعصر الذكاء الاصطناعي.
عندما تحوّل اليقين من عاطفة إلى معادلة
منذ قرون، كان اليقين في الفلسفة مجرّد إحساس داخلي، أو بناءٍ ذهني يتكئ على الحدس والإيمان. لكن هذه المخطوطة فعلت ما هو أعظم حوّلت اليقين إلى بنية رياضية تُدار بقوانين واضحة، تُختبر، وتُقاس، وتُطوّر.
لقد قدّم الصدر – مبكّراً – تجديداً لم يستطع ديكارت أن يتخيّله، ولم يستطع هيوم أن يشكّ فيه، ولم يستطع بوبر أن يدحضه. بدل معادلة “أنا أفكر، إذن أنا موجود” ظهر مفهوم جديد “أنا أستدل، إذن أنا أتطور من الجهل إلى العلم.”. وبدل الشك الهيومي الذي يقطع الجسور بين التجربة والقانون، جاءت الطمأنينة الاحتمالية، التي تجعل العقل يتقدّم خطوةً خطوة، كما تتقدّم الخوارزميات اليوم في تعلّمها من البيانات.
إنها لحظةٌ شبيهة بما صنعه آينشتاين في الفيزياء، حين أعاد تعريف الضوء.
هنا، أعيد تعريف العقل نفسه.
جسر بين حضارتين: حين صافحت النجف كامبردج
هذه المخطوطة ليست نصاً فلسفياً فحسب، بل مصالحة حضارية نادرة.
ففي سطورها تتعانق:
عقلانية المعتزلة مع تجريبية فرانسيس بيكون،
منطق أرسطو مع احتمالات بايز،
علم الكلام الإسلامي مع فلسفة العلوم،
وروح الشرق مع أدوات الغرب.
لقد نجح السيد الشهيد الصدر في فعل ما طالما ظن الناس أنه مستحيل، جمع الرياضيات بالميتافيزيقا، وجعل الإيمان بالله والثقة بقانون الجاذبية يخرجان من الآلة الاستدلالية نفسها.
إنها لحظةٌ نادرة في التاريخ تشبه ما حدث عندما كتب ابن الهيثم “المناظر”، أو عندما نشر نيوتن “المبادئ الرياضية”؛ لحظةٌ يتغيّر فيها شكل المعرفة نفسها.
الأسس المنطقية للاستقراء ككائن حي
ليست هذه المخطوطة كتاباً، بل كائناً يتنفس ويتحوّل، هوامشه كأنها لقطات حيّة من عقلٍ يعمل، يشطب، يتراجع، يتقدّم، يجرّب…نرى فيها “صيرورة التفكير” لا نتيجته فحسب. رسومها البيانية ليست خطوطاً، بل خرائط وجودية؛ كما لو أن المنحنيات تحاول أن ترسم الطريق بين العالم المرئي والعالم اللامرئي. طبعتها الأولى عام 1972 تشبه “حفريّة معرفية” فيها بصمات القلق والاكتشاف، لحظةٌ يتردّد فيها المؤلف بين احتمالٍ وآخر، قبل أن تتبلور النظرية في صورتها النهائية.
هذا المؤلف يشبه مخطوطات عصر النهضة…
لكنها كتبت في الشرق، في زمنٍ مظلم سياسياً، لتقول إن الأفكار العظيمة لا تخضع لظروف التاريخ، بل تصنع تاريخها الخاص.
نبوة فلسفية لعصر الخوارزميات
قبل نصف قرن من ظهور الذكاء الاصطناعي الحديث، استشرف الصدر الإشكاليات الكبرى التي تسائل اليوم مهندسي الخوارزميات عنها وهي:
كيف تتعلم الآلة؟
ما معنى الاحتمال؟
كيف يتحوّل “النموذج الإحصائي” إلى يقين؟
وما حدود العقل حين يواجه مجهولاً يمكن حسابه؟
إن نظريات الاستقراء التي وضعها الشهيد الصدر أصبحت اليوم العمود الفقري للتعلم الآلي (Machine Learning)،
وكأن المخطوطة كانت “نبوءة رياضية” لثورةٍ لم تبدأ بعد.
مستقبل الحفظ: حين يتحوّل التراث إلى مختبر فكري
لا يمكن لهذه المخطوطة أن تبقى جامدة. إنها تطلب أن تكون حيّة، وأن تُقرأ، وأن تُناقش، وأن تُعاد صياغتها. من هنا تأتي رؤية المستقبل واهتمام اليونسكو عالميا.
متحف الاستقراء الحي
فضاءٌ افتراضي يعرض المؤلف لا كوثيقة، بل كـ مختبر؛ يسمح للزائر أن يتتبع الفكرة من المسودة الأولى إلى النموذج الرياضي النهائي.
كرسي اليونسكو للعقلانية التكاملية في النجف
منصة عالمية تُعيد قراءة الإرث العقلي الشرقي وتربطه بعلوم الكم، نظرية المعلومات، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
نسخة “جينومية” للمخطوطة
باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل طبقات الكتابة، وتتبّع رحلة الفكرة عبر الزمن، كما لو أن المخطوطة كائن وراثي له جيناته الخاصة. على الحكومة العراقية والنجف كبوابة حكمة عالمية أن تسجل ذاكرة مستقبلية أرسلهاهذا المؤلف كعقلٌ شرقي إلى البشرية.
لسنا أمام كتاب، ولا أمام مخطوطة، بل أمام كبسولة زمنية ورسالةٌ كتبها عقلٌ من الشرق ليذكّر البشرية في القرن الحادي والعشرين أن العقل لا يموت، وأن الإيمان ليس نقيض العلم، وأن اليقين ليس وهماً.
هذه المخطوطة تؤكد أن الشرق لم يقل كلمته الأخيرة بعد، وأن النجف – بمكتباتها ومدارسها – لا تزال قادرة على إنتاج فكرٍ يوازي في قيمته ما أنتجته أثينا، باريس، وأكسفورد.
إن تسجيل هذا العمل في ذاكرة العالم اليونسكو ليس تكريماً لعقلٍ فردي، بل اعترافٌ بأن الإنسانية واحدة،
وأن الحقيقة لا وطن لها،
وأن أحفادنا يحتاجون إلى هذا النور كي لا يضيعوا في غابة الخوارزميات التي تحيط بنا.
هذه ليست ذاكرة الماضي…
بل ذاكرة المستقبل.





