top of page

التعليم العالي بين منجزات الترويج الإعلامي وواقع الانهيار الأكاديمي والانفصال التام عن السوق!

  • صورة الكاتب: KDTS
    KDTS
  • 17 أغسطس
  • 3 دقيقة قراءة
منجزات كارتونية!
منجزات كارتونية!

بارومتر العراق/ كتب مازن الطيب-

في ظلّ ما يُعلن من "منجزات" تعليمية في العراق، تبرز قرارات كـ"تحويل المعاهد إلى كليات بوليتكنك" و"مسار بولونيا"، او"كليات تميز وذكاء اصطناعي"، كأحداث يُروّج لها إعلامياً على انها "نقلة نوعية" في مسار التعليم التقني والتعليم العالي. لكن، حين ننظر إلى هذه الخطوة من خلال عدسة الواقع وبعين أكاديمية فاحصة، لا نجد سوى صورة مقلوبة رأساً على عقب، منجزات تُعلن بضجيج إعلامي، بينما يُبنى الهشيم فوق ركام التعليم المنهار، والفراغ المؤسسي، والانفصال التام بين الحقل الأكاديمي وسوق العمل.

الجامعة التقنية الوسطى، كما غيرها من المؤسسات، تُعلن بفخر عن "تحول تاريخي" بتحويل معاهد إلى كليات بوليتكنك، لكن السؤال الذي لا يُطرح هو: (هل يُمكن لمؤسسة تعليمية أن تتحول إلى بوليتكنك حقيقي في غياب البنية التحتية، والمعامل، والمختبرات، والكوادر التدريسية المؤهلة، وشراكات الصناعة والعمل الخاص؟). هل يُمكن الحديث عن تعليم تقني متقدم في معاهد لا تملك حتى مختبرات كيميائية حديثة، أو ورش عمل ميكانيكية متطورة، أو أنظمة رقمية حديثة وحواضن عمل متقدمة؟

لا يمكن أن ينجح هذا التحول في بيئة لا تربط التعليم بالتطبيق، ولا تربط الخريجين بالسوق، ولا تُعنى بجودة المخرجات، بل تُعنى فقط بعدد المقاعد، وحجم الدرجات، وكمية الشهادات التي تُوزع كأوراق التوت تُغطي عورة نظام تعليمي فاشل. تابع تظاهرات جيوش الخريجين من كليات الهندسة بأنواعها، الصيدلة، والعلوم الأخرى الذين يفترشون طرقات مداخل المنطقة الخضراء ومكاتب الحكومات في المحافظات يطالبون بفرص عمل في قطاع خاص ميت ومثله حكومي فاشل مترهل.

التوسع الأفقي في التعليم كوسيلة للتوظيف، والترويج الانتخابي والكسب السياسي، لا كأداة للإنتاج. لقد تحول التعليم العالي في العراق إلى أداة سياسية بيد الاحزاب الحاكمة، يُستخدم لشراء الولاءات، وتعبئة الجماهير، وتوظيف "جيوش" من الخريجين في دوائر الدولة. كل قرار بتوسيع المقاعد في الدراسات العليا على حساب المهنية والمعايير الأكاديمية، يدمر ما بقي من قاعدة علمية. إنشاء كليات جديدة تمتص دخول المواطنين، أو تحويل معاهد إلى بوليتكنك، لا يُبنى على دراسة احتياجات السوق، ولا على تقييم حقيقي لقدرات المؤسسة التعليمية، بل على حسابات سياسية بحتة، تقوم على معادلات من بينها، كم من الوظائف يمكن توزيعها؟ كم من الناخبين يمكن استمالتهم؟

نتيجة لذلك، نرى اليوم مئات الآلاف من حملة الشهادات العليا – ماجستير ودكتوراه – يُطالبون بوظائف حكومية، بينما لا يملكون أدنى مهارة عملية تُسهم في بناء الاقتصاد او المجتمع. تخصصات أكاديمية باتت مفرغة من المضمون، كـ"العلوم السياسية"، و"الإدارة العامة"، و"اللغة العربية"، والتاريخ وغيره من العلوم، تُدرّس في موسسات تدعى أكاديمية لكنها لا تملك كادرًا مؤهلاً، وتُمنح فيها درجات علمية لطلاب لم يُقدّموا أطروحات بحثية، بل نسخوا مقالات من الإنترنت، أو اشتروا شهاداتهم عبر قنوات "الامتيازات" التي لا عدّ لها ولا حصر.


الفوضى في الدراسات العليا: إعادة الترقيع بدل الإصلاح

الأمر لا يقتصر على البكالوريوس. لقد تحولت الدراسات العليا في العراق إلى سوق سوداء للدرجات العلمية. عشرات الآلاف من طلاب الماجستير والدكتوراه يُعاد نفخهم سنوياً، بعد ان رقنت قيودهم لأسباب غش وفشل وتزوير. بدلاً من مواجهة هذا الواقع، تأتي قرارات "التسامح" بمنح أدوار امتحانية ثانية، وثالثة، ورابعة، وتقديم "قنوات امتياز" تُسمح بإعادة التسجيل حتى بعد فشل متكرر، ورفع المعدلات الدراسية بطرق غير علمية، وتغيير أسس الانتساب إلى الدراسات العليا.

كل هذا يتم باسم "الإتاحة" و"العدالة"، لكنه في الحقيقة تدمير منهجي لرصانة التعليم، وضرب معايير الجودة، وتشجيع على الرداءة. والنتيجة؟ جيل من "الدكاترة" الذين لا يعرفون كيف يكتبون ورقة بحثية، ولا يفرقون بين منهجية البحث العلمي وكتابة مقال رأي.


بوليتكنك بلا بولي: وهم التعليم التقني

البوليتكنك، في جوهره، نموذج تعليمي يُركّز على المهارة، والتطبيق، والشراكة مع الصناعة، وحل المشكلات الإنتاجية. أما في العراق، فالبوليتكنك الجديد هو مجرد "تغيير اسم" معهد ما لا يملك حتى كهرباء مستمرة، ولا أجهزة حديثة، ولا مدرّبين فنيين. إذا كيف نتحدث عن تعليم تقني متقدم في بلد لا يُنتج شيئاً؟ لا صناعة، لا زراعة حديثة، لا تكنولوجيا، لا بنية تحتية، ولا سياسة وطنية للتنمية.

التعليم التقني الناجح لا يُبنى على قرارات إدارية، بل على شراكة حقيقية مع القطاع الخاص، واستثمار في البنية التحتية، وتطوير المناهج بما يتلاءم مع احتياجات السوق. أما في العراق، فالتعليم التقني يُبنى على "الإعلانات الصحفية" و"الصور التذكارية" مع الوزراء، بينما يُعاني الطالب من نقص في الكتب، والكهرباء، والإنترنت، وحتى مقاعد الدراسة.


التعليم بين الترويج والانهيار

ما يُعلن اليوم من "منجزات" تعليمية هو في الحقيقة سلسلة من المسلسلات الإعلامية يراد بها المزايدة السياسية، وليس إصلاح التعليم. التحول إلى بوليتكنك، توسيع المقاعد، إنشاء كليات جديدة، منح درجات عليا – كلها قرارات تُتخذ في فراغ، بعيداً عن الواقع الأكاديمي، ودون رؤية استراتيجية، ودون مسؤولية أمام الوطن.

التعليم ليس عدداً من الشهادات، ولا مقاعد في الجامعات، ولا أسماء جديدة على اللوحات. التعليم هو بناء الإنسان، وتأهيل الكوادر، وخدمة الاقتصاد، ودعم التنمية. فإذا لم يُعد التعليم في العراق إلى هذه الأسس، فكل "المنجزات" ما هي إلا دخان يُطلق من مصنع الوهم، بينما يزداد الواقع تدهوراً، وينتظر الوطن فواتير باهظة سندفعها أجيالاً قادمة.

الحل لا يكمن في تحويل معهد إلى بوليتكنك، بل في تحويل نظام التعليم كله إلى مؤسسة رصينة، علمية، ومنتجة، تُعنى بالجودة، لا بالعدد، وبالكفاءة، لا بالولاء. وإلا، فسنبقى نُنجب دفعة تلو الأخرى من "الخريجين العاطلين"، و"الدكاترة الفاشلين"، و"الشهادات الفارغة".

انتهى.

©2025 by IRAQI-BAROMETER. 

bottom of page