قرار إلغاء الحبر الانتخابي ورهانات النزاهة
- KDTS
- 24 يوليو
- 3 دقيقة قراءة

بارومتر العراق/ كتب ضياء ثابت-
في خطوة وصفتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق بأنها قفزة نحو الحداثة والرقمنة، تم الإعلان عن إلغاء استخدام الحبر الانتخابي في الانتخابات المقبلة. يأتي هذا القرار مدعومًا بوعود بتبني تكنولوجيا متطورة، والاعتماد الكلي على البطاقة البايومترية، وأجهزة التحقق الإلكتروني المزودة بكاميرات، بالإضافة إلى نظام المطابقة الثلاثية لبصمة الناخب وصورته البايومترية الآنية. لكن، هل يمكن للرقمنة وحدها أن تكون عصا سحرية تضمن النزاهة في بيئة انتخابية معقدة كالعراق؟
تحول جذري: من الحبر المادي إلى البصمة الرقمية
لطالما كان الحبر الانتخابي رمزًا ماديًا لدعم نزاهة العملية الانتخابية العراقية. فبقعة الحبر الأرجوانية على إصبع الناخب بمثابة شهادة لا لبس فيها على مشاركته، ودرع ضد محاولات تكرار التصويت. اليوم، تقول المفوضية إن هذا الإجراء "غير ذي جدوى فنية ومكلف ماليًا"، وأن البدائل الرقمية كفيلة بسد هذا الفراغ بل وتجاوزه.
تُبرز المفوضية البطاقة البايومترية كركيزة أساسية لهذا التحول. فتلك البطاقة، التي تزعم المفوضية أنها "محصنة إلكترونيًا ولا يمكن استخدامها إلا من قبل صاحبها الأصلي"، تحتوي على بصمات الأصابع والصورة البايومترية الآنية للناخب. يضاف إليها أجهزة التحقق الإلكتروني التي تتضمن قاعدة بيانات سجل الناخبين، وتقوم بـ "المطابقة الثلاثية لبصمة الناخب وصورته البايومترية"، بهدف منع تكرار التصويت وضمان نزاهة العملية. لكن على خلاف الوسائل الرقمية التي يمكن التلاعب بها من مصدرها البرمجي،يبقى الحبر وسيلة تقليدية تحول دون قيام شخص واحد بالتصويت لأكثر من مرة.
مخاطر خفية خلف بريق الرقمنة
بينما تبدو الوعود التكنولوجية براقة، إلا أن إلغاء الحبر الانتخابي يثير عاصفة من المخاوف المشروعة بشأن نزاهة العملية الانتخابية، لا سيما في المناطق التي قد تكون عرضة للتلاعب.
على الرغم من وجود أنظمة المطابقة الثلاثية، فإن فعاليتها تتوقف على البنية التحتية التقنية وكفاءة المشغلين. في المناطق النائية أو التي تعاني من ضعف في الاتصالات أو انقطاع التيار الكهربائي المتكرر وتأثر الاتصالات الداخلية بين جهاز واخر، اذ قد لا تعمل هذه الأجهزة بكفاءة كاملة. هذا الخلل يفتح الباب على مصراعيه أمام إمكانية تكرار التصويت، ويزيد من صعوبة اكتشاف مثل هذه الحالات.
يشخص ضعف الرقابة في المناطق "الرمادية"، في الأقضية والنواحي والقرى، والمناطق التي تفتقر إلى رقابة فعالة أو تلك "المغلقة سياسيًا وإداريًا" لمكون حزبي معين،كتحدٍ اساسي، ويصبح غياب الحبر الانتخابي مكمن خطر حقيقي. بدون علامة مادية واضحة على يد الناخب، يصبح من الصعب للغاية على المراقبين المحليين والدوليين التحقق من أن الشخص لم يصوت أكثر من مرة. هذا يسهل على الأحزاب المتنفذة تجميع الأصوات عبر طرق غير مشروعة، مما يقوض مبدأ "صوت واحد لكل ناخب".
الاعتماد الكلي على التكنولوجيا سيف ذو حدين، لذا نجد انتخابات المانيا وهولندا وأمريكا خلال السنوات الثلاث الاخيرة تم بالاعتماد النسبي وليسالمطلق على الأنظمة الإلكترونية. فهم كدول متقدمة تقنيا اعلنوا صراحة ان التكنلوجيا المفرطة في العمليات الانتخابية عرضة للاختراقات السيبرانية أو الأعطال الفنية. تخيل سيناريو حيث تتعرض هذه الأنظمة لخلل فني واسع النطاق أو لهجوم سيبراني، فذلك قد يؤثر على مصداقية النتائج برمتها، خاصة في المناطق التي يصعب فيها التدخل السريع لإصلاح الأعطال.
ولا يمكن انكار ان غياب الثقة الشعبية بالعمليات الانتخابية تحدي أكبر من التحدي التقني. كان الحبر الانتخابي يمثل رمزًا ملموسًا للنزاهة والشفافية في أذهان الكثير من الناخبين العراقيين. إلغاؤه قد يؤدي إلى تراجع عميق في الثقة بالعملية الانتخابية، خاصة لدى الفئات التي لا تثق بشكل كامل في الأنظمة الإلكترونية أو التي لديها مخاوف تاريخية من التلاعب. بناء الثقة يستغرق سنوات، وهدمها لا يتطلب سوى قرار واحد.
ولا ننسى ان استغلال النفوذ الحزبي طريق ممهد للتلاعب في المناطق التي تسيطر عليها أحزاب معينة بشكل شبه كامل، قد يتم استغلال غياب الحبر الانتخابي لتوجيه الناخبين أو الضغط عليهم للتصويت لصالح مرشحين معينين، دون وجود رادع مادي يمنع تكرار التصويت أو يوثق مشاركة الناخب. هذا السيناريو يقوض إرادة الناخبين الحرة والمستقلة.
الناخبين بحاجة إلى ضمانات
إن قرار إلغاء الحبر الانتخابي، على الرغم من تبرير المفوضية له بالتحول نحو التقنيات الحديثة، يحمل في طياته مخاطر كبيرة على نزاهة العملية الانتخابية في العراق. في بيئة سياسية معقدة ومتقلبة مثل العراق، حيث لا تزال الثقة في المؤسسات ضعيفة، وحيث توجد مناطق خارجة عن السيطرة المركزية أو خاضعة لنفوذ أحزاب معينة، فإن إزالة أي إجراء يساهم في الشفافية المادية يمكن أن يفتح الباب أمام التلاعب على نطاق واسع.
يجب على المفوضية أن تضمن أن البدائل الرقمية ليست فقط قوية بما يكفي لمواجهة هذه التحديات، بل يجب أن تتجاوز التوقعات لتغرس الثقة في نفوس الناخبين والمراقبين. يتطلب ذلك آليات رقابة صارمة ومستقلة، تضمن الشفافية في كل خطوة من العملية الانتخابية، خاصة في المناطق الحساسة. يجب أن تكون هناك خطط طوارئ محكمة لمواجهة أي أعطال فنية أو هجمات سيبرانية محتملة. الأهم من ذلك، يجب على المفوضية أن تبني جسور الثقة مع الجمهور، وأن تثبت أن هذا التحول الرقمي لن يكون على حساب نزاهة الانتخابات وإرادة الشعب.
انتهى.