top of page

كلية الذكاء الاصطناعي كطائرة في صحراء بلا مطار!

  • صورة الكاتب: KDTS
    KDTS
  • 29 يوليو
  • 3 دقيقة قراءة

صورة من صفحة وزير التعليم على الفيسبوك
صورة من صفحة وزير التعليم على الفيسبوك

بارومتر العراق/ غيث السيد-

يشهد العراق اليوم أزمة متفاقمة في بنية سوق العمل، تترجمها مشاهد طوابير العاطلين من خريجي الجامعات، وجيوش المتظاهرين أمام الوزارات بحثًا عن فرصة توظيف، فيما تعاني مؤسسات الدولة من الترهل الوظيفي والتكدس الإداري. وتكمن جذور هذه الأزمة في فجوة عميقة بين النظام التعليمي وسوق العمل، إذ تعتمد الدولة نظامًا أكاديميًا نظريًا معزولًا عن الواقع المهني والاقتصادي، ما أنتج خللا اجتماعيًا اداريا مزدوج، خريجون بلا وظائف، ووظائف بلا كفاءات.

في بلد يعاني من اختلال اقتصادي حاد، لا تزال الجامعات العراقية تنتج سنويًا عشرات الآلاف من الخريجين في تخصصات أدبية ونظرية لا تجد طريقًا إلى سوق العمل. على سبيل المثال، تُخرّج وزارة التعليم العالي ما يقارب 16 ألف طالب في اختصاص التاريخ سنويًا، وأكثر من 24 ألف طالب في اللغة العربية، ورقم مقارب لعلم النفس ومثله علم الاجتماع، إضافة إلى العلوم السياسة وتخصصات اخرى لم تعد هنالك قدرة لسوق عمل ضعيف جدا وكورسات حكومية مترهلة لاستيعابهم.

هذا التضخم العددي في تخصصات غير منتجة لا يعني فقط بطالة فردية، بل يعني أزمة مؤسسية تضغط على الدولة لتوفير وظائف لا تحتاجها، وتنهك ميزانية الدولة برواتب لموظفين بلا دور حقيقي. وهكذا تتحوّل الوزارات إلى ملاجئ بطالة مقنّعة، ويتحول الموظف إلى رقم على كشوف الرواتب.

كان من الممكن أن يُعوّل على القطاع الخاص لامتصاص البطالة، لكن الاقتصاد العراقي الريعي المعتمد على النفط، والبيروقراطية المعرقلة، والفساد المنتشر، جعلت من هذا القطاع نفسه هشًا وضعيفًا وغير قادر على استيعاب الكفاءات. وبالتالي، فإن مخرجات التعليم الجامعي لا تجد أمامها سوى خيارين التعيين الحكومي أو البطالة. وعندما يغيب الخيار الأول، يتفجر الثاني في مظاهرات واعتصامات مستمرة، لا تطالب سوى بحياة كريمة.

كلية الذكاء الاصطناعي حلم في صحراء الواقع

في ظل هذا الواقع المختل، يُعلن وزير التعليم العالي مؤخرًا عن إنشاء كلية جديدة للذكاء الاصطناعي. من حيث المبدأ، لا غبار على أهمية هذا المجال عالميًا، بل هو من ركائز المستقبل. لكن في العراق، يبدو هذا الإعلان أقرب إلى الإنشاء السياسي منه إلى مشروع وطني.

فلا توجد بنية تحتية رقمية حقيقية، ولا مراكز بحث متقدمة، ولا قطاع تكنولوجي نشط في الدولة أو في القطاع الخاص يمكن أن يستوعب خريجي هذه الكلية، أو حتى يوجه مساراتهم. ما يوجد في العراق اليوم هو فهم سطحي للذكاء الاصطناعي، يُختزل غالبًا في تطبيقات الهواتف الذكية أو تقنيات مراقبة بدائية. أما الصناعات المعتمدة على التعلم الآلي، وتحليل البيانات، والروبوتات، وأنظمة دعم القرار الذكية، فهي غائبة تمامًا عن البيئة العراقية في القطاعين الخاص والعام.

لقد تحوّلت الجامعات العراقية إلى مؤسسات نظرية معزولة، تعمل بمنطق تقليدي يعيد إنتاج المناهج القديمة دون مراجعة دورية، ولا تربطها أي آليات واضحة مع احتياجات السوق أو متطلبات التنمية عدا عن تجارب صغيرة هنا او هناك. إذا نظرنا لتجارب الدول الأخرى سنجد ان الجامعات تمتلك مصانع ومعامل وشركات حكومية كانت او خاصة لتوظف خريجيها وتنتفع منهم كمورد وبالوقت ذاته تمكنهم من المهارات وتصنع منهم عناصر منتجة.

في العراق بدات وزارة التعليم والتربية تضع معدلات قبول لكليات الطب وغيره من التخصصات المطلوبة ما بين (١٠٥-١١٥) وهي كارثة علمية لا توجد باي نظام تعليمي في العالم. ومؤخراً ومنذ ثلاث سنوات توقفت عملية تعيين خريجي كليات الطب الحكومية والأهلية في وقت ليس لهم القدرة على العمل بشهاداتهم دون المرور بالممارسة العملية! وتجد اليوم صيادلة وأطباء ومهندسين يعملون منظفين او أعمال خدمية رخيصة!

ويفتقر العراق إلى مجالس قطاعية حقيقية تُنظّم العلاقة بين التعليم والتوظيف، عدا مجلس الخدمة الذي هو الاخر بلا حول او قوة ضمن مساق الدوامة التي ذكرناها، بسبب غياب التنسيق بين الوزارات المعنية، فلا وزارة التعليم تسأل سوق العمل عما يحتاج، ولا وزارة التخطيط تُلزم التعليم بالتكيّف مع متطلبات السوق، ولا وزارة العمل تتابع المخرجات ومستوى التوظيف.

الترهل الوظيفي في الدولة هو نتيجة طبيعية لهذه الفوضى. فحين يتم تعيين مئات الآلاف من خريجي التخصصات غير المرتبطة بحاجة السوق في وظائف لا تحتاجها الدولة، تتحوّل مؤسساتها إلى كيان مترهل، فاقد للفعالية.

والأخطر من ذلك، أن هذه المخرجات تُفاقم الإحباط المجتمعي وتضعف ثقة الشباب بالتعليم، ما يدفع البعض إلى العزوف عن الدراسة، أو التفكير بالهجرة، أو الانخراط في أنشطة غير قانونية.

إذا أراد العراق أن ينهض من أزمته البنيوية، فعليه أن يعيد بناء منظومته التعليمية وفقًا لحاجات سوق العمل مع اعادة بناء أسواقه وفق رؤى اقتصادية وصناعية وتخطيطية ومالية صحيحة. يجب أن تكون هناك خريطة وطنية للاختصاصات المطلوبة، ويُعاد توجيه الطاقات الجامعية نحو مهن تتوافق مع التنمية الوطنية. كما يجب تحويل بعض الكليات النظرية إلى معاهد تطبيقية، وربط البحث العلمي مباشرة بالمشاريع الاقتصادية.

أما إطلاق كليات جديدة كـ”الذكاء الاصطناعي” دون بيئة حاضنة، فهو أشبه بوضع طائرة في الصحراء، دون مدرج إقلاع ولا برج مراقبة.

إن التعليم المنتج هو القاعدة لأي نهضة اقتصادية أو استقرار اجتماعي. وما لم يُربط التعليم بسوق العمل، فسيبقى العراق بلد الخريجين العاطلين، والشهادات المُهملة، والمؤسسات المثقلة بالفراغ.

انتهى.

©2025 by IRAQI-BAROMETER. 

bottom of page